لا يتردد عاقل في عالمنا العربي والإسلامي في القول بأن الواقع الذي تعيشه الأمّة العربية والإسلامية الآن واقع مزرٍ ومرير، ومحبط ومحزن وذلك على شتى الصعد؛ حتى أن أكثر الناس تشاؤماً لم يكن ليظنّ أن تصل الأمة إلى ما وصلت إليه من تردّ وانحدار، وتفرّق وتشرذم، حيث عمّت فيما بينها الخلافات والعداوات بصورة مفزعة مخيفة، مما أدى إلى نشوء صراعات سالت فيها كثير من الدماء في غير موضعها مكاناً وزماناً، مما يستدعي – دون تردد وتأخير- البحث عن أسباب هذا الإنحدار والسقوط المخيفين، ويطرح سؤالاً مشروعاً عن تلك الأثمان الباهظة التي دفعتها الأمة من أجل أهداف سعت إليها ولم تحصد نتائجها المرجوّة، بل لم تصل إلى أدنى وأقلّ تلك الأهداف شأناً وأهمية، هذا إن لم تكن قد أصبحت في موضع أسوأ مما كانت عليه.
إن هذا الواقع الأليم يتطلب القيام بعملية نقد ومراجعة -يقوم بها السياسيون والعلماء والمسؤولون المخلصون من أبناء هذه الأمة المسلمة، وأولو الرأي والحكمة والعقل والإختصاص في مختلف العلوم والمعارف – إذ ليس من المعقول أن يستمر هذا النزيف الخطير في الأمة، حيث تفقد فيه أعزّ وأغلى ما تملك من طاقات وقدرات وأولها إنسانها ومواطنها الذي عليه المعوّل في البناء، بل هو الأساس المتين لكل نهضة.
لا بد من مراجعة واعية حكيمة، متأنية راشدة، متجردة منصفة، لا تتأثر بأي عامل خارجي، أو ضغوط تحرفها عن سيرها أو تعطّل مسارها، أو تؤثر سلباً في بحثها ومراجعاتها ونتائجها.
ولو أنّ المعنيين بهذا الأمر -أكانوا حكاماً أو سياسين أو رؤساء منظمات أو وزارات أو زعماء أحزاب و جماعات تبنّوا هذا الأمر، وهيؤوا أسبابه، وأسندوه إلى نخبة من أهل العلم والفكر، والخبرة والاختصاص ووفّروا لهم جميع الإمكانيات اللازمة، وذلّلوا لهم جميع السّبل من غير قيود تخلّ بالبحث والمراجعة والنقد وتصحيح المسار مع صلاحيات كاملة، إضافة إلى تخلّيهم عن منطق الاستئثار والتفرد بالرأي وادّعاء الصواب كما كان يصنع فرعون الذي أهلك نفسه وقومه “ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد”. لحصدنا نتائج رائعة في منتهى الأهمية والفائدة تعود على الفرد والجماعة والدولة والأمّة بكل خير ونفع في الحاضر والمستقبل، وذلك خلال وقت معقول ليس بالطويل ..
تغيير الواقع يأتي بعد تغيير الأفكار والتصوّرات والقناعات التي تصوغ الأفعال وتصنع الواقع، ولذلك كان شعار المنظمة الأممية للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” منذ ميلادها في 15 نوفمبر عام 1945 هو أن “الحرب تبدأ في العقول كما يبدأ فيها السلام”.
وإذا كانت المراجعات تشمل الجانب الفكري والايدولوجي والعملي فإنها تشمل بلا شك تلك الفهوم المتطرفة والشذوذات والإسقاطات الخاطئة على النص القرآني الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، والذي حصد العرب والمسلمون من وراء سوء ذلك الفهم و تطبيقه – من قبل البعض- نتائج كارثية على صعيد الأفراد والجماعات والأحزاب والدول.
ولا يعيب المرء والجماعات والأحزاب بل والدول أن تُجري مثل هذه المراجعات والتراجعات لتصحيح المسار، بل هو دليل حيوية وتجديد، وتخلٍّ عما كان سلبياً أو خاطئاً، وإنّ تبني ترشيد الأفكار والواقع للنهوض بعد التعثر أو السقوط هو من أعظم ما يمكن أن يُقدّم للأمة في هذا الوقت العصيب، فالاعتراف بالخطأ أو القصور ثم النهوض للبناء على قواعد صحيحة خير من التمادي في الإنحراف أو متابعة السقوط إلى الهاوية.
أمّا ماذا نعني بالمراجعات فيمكن أن نقول: المراجعات هي عملية نقد ذاتي يقوم بها حزب أو تنظيم أو فرد معين، على تصوراته ومنطلقاته الفكرية والأيديولوجية السابقة، وكذلك الممارسات العملية التي صاحبت تلك التصورات والمنطلقات، ووضع أسس فكرية، وأولويات جديدة أو مختلفة عن الأولويات والحتميات السابقة، تشمل أسساً وضوابط تكشف أي خلل في التوجهات أو التطبيق، وتنزلها من مرتبة المسلمات إلى مرتبة الاجتهادات التي تقبل الخطأ، وهو ما يُنتج نظاما فكريا وأيديولوجيا وممارسة تنظيمية تختلف كليا أو جزئيا عن الممارسة السابقة.
اترك تعليق